31/12/2023 - 21:33

في غزّة عندما أمشي، أضع يديّ الاثنتين في جيبي | شهادة

في غزّة عندما أمشي، أضع يديّ الاثنتين في جيبي | شهادة

نازحون فلسطينيّون في رفح بسبب الحرب الإسرائيليّة | ساهر الغرّة

 

لا أعرف ما المقدّمة الملائمة لهذا النصّ، سئمت من عدّ أيّام الإبادة، وبات رقم الشهداء عاليًا، حتّى صرت أشعر بوجع في أصابعي؛ أحسّ بأنّ أسنان الموتى تقضمني، يتشبّثون فيّ كأنّي مقبرة؛ لكثرة الميّتين داخلي، وكثبان الرمال في قلبي، أنا يابسة جافّة، وفيّ شجرة خريف، أتساقط ورقة ورقة، هاتوا فأسًا وقصّوا أصابعي، سئمت عدّ أيّام الإبادة، والمقبرة امتلأت!

 

الكلّ سيعرِف

بينما كنت أتجوّل في سوق مدينة النصيرات، وأشاهد الدمار الّذي لحِق بالمباني السكنيّة والمحالّ التجاريّة، صادفت حارس عمارتنا، وصرنا نتحدّث عمّا يصير بنا من قتل، أخبرني أنّ بيتي دُمِّر بالكامل، وبيت أخي أيضًا، قلت له لا بأس، المال معوَّض فالمهمّ الأرواح، هو مثل فلسطينيّ في لحظات الدمار، "في المال ولا في العيال". قلت: "كيف حالك وحال أهلك؟"، قال: "أنا عايش، أهلي كلّهم استشهدوا، ضايلة بسّ مرتي وولادي، أمّا إخوتي وخواتي وأعمامي كلّهم راحوا، بادونا قصفوا العمارة علينا". واسيته بخجل، وحتّى أُشعره بأنّ المصاب واحد، أخبرته أنّ ابن أختي رفقة أبناء عمّي وعمّتي قد استشهدوا، وأنّ ابن أختي الثاني لا علوم عنه؛ إذ اختطفه جيش الاحتلال، فصار حارس العمارة يواسيني ويربّت على يدي، أواسيه وأربّت على يده، مقلّبين الموتى في أيدينا، على أصابعنا.

سألني: :وين نزحت؟"، أجبته: "هان في الزوايدة عند الآثار، وإنت وين؟"، ردّ ببكاء: "قاعد في حاصل لناس، يخلف عليهم قعّدوني عندهم". "كيف بتصرف؟ من وين بتشتري أغراضك؟"، باغته بالسؤال! أجاب بكبرياء مُثقل وظهر مُثخن: "بعت جوّالي بـ 500 شيكل، وهيني بصرف منهم". سألته متفاجئًا: "كيف هيك؟"، قال: "بدّي أطعمي ولادي كيف أصرف عليهم؟ وبعدين شو يعني أبيع جوّالي؟ ليش أخلّيه؟ مع مين أتواصل؟ أهلي كلّهم استشهدوا، أخبار بدّيش أعرف إشي، ولو استشهدت الكلّ رح يعرف".

 

محيي/ مخيي

نزحت معنا عائلة مكوّنة من عشرة أفراد، يرافقهم ابنهم ذو الثلاث السنوات، اسمه محيي؛ ولأنّ اللغة ما زالت تتشكّل عنده، فإنّه ينطق حرف الحاء خاءً، وحرف الهاء غينًا، والسين ثاءً. اللغة العربيّة تبكي عندما يتحدّث، لا ينطق ولو بكلمة صحيحة واحدة، حتّى صرنا نناديه ’مُخْيي اليهودي‘؛ لأنّ نطقه للغة العربيّة يشبه نطق مستوطن تعلّم العربيّة جديدًا، والمضحك في هذا الموضوع أنّ ’مُخيي‘ أبيض وعيناه زرقاوان وشعره أصفر، يعني نحن نتحدّث عن شخص، لو أنّ جيش الاحتلال رآه وسمعه، لظنّه أسيرًا من يوم السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر).

يستيقظ ’مُخْيي‘ دائمًا، ويطلق صباحًا صارخًا بقوله: "صباخ الخير عليكم كلّكم"، يمشي باتّجاهي قائلًا: "صباخ الخير يا أبو الصُّخاب"، أردّ عليه: "وصباخك يا مُخْيي"، يسألني: "في مَيّ سحنة؟"، أُجيبه: "كلّ الميّ إلك".

محيي حقيقةً هو روحنا في هذا الشاليه، يساعدنا في تكسير الحطب وتجميعه، يلاعب أطفال المزرعة، ويتصرّف كقائد معهم، والكلّ يجاوره ويتجنّبه في نفس اللحظة.

والد محيي يخاف على طفليه، مريم ومحيي، ويحاول أن يقضي على مشاهد الخوف والذعر في أعينهم، بأيّ طريقة كانت... حتّى أنّ محيي أخبرنا ذات مرّة عن وعد والده له: "بسّ تشوف دبّابة رح أخلّيك تركبها". وشكا محيي والده قائلًا: "شفنا الدبّابات والجنود، وما خلّيتني أركب، ختّى لمّا خكتلك ركّبني، خكتلي مش هلأ، وأنا بخبّش خدّ يكزب عليّ".

حروف الخاء كثيرة، لكنّ هذا محيي وهذا نطقه، حتّى أنّنا في المزرعة، الستّين فردًا، صرنا نتحدّث مثله. سألت والد محيي عن سبب وعده، أجابني: "ما بدّي ابني يشوف الدبّابة والجنود فيخاف ويصير عنده تروما، فحكتله رح أركّبك الدبّابة إزا ما بتغلّبني، عشان يتعامل مع الدبّابة على إنها سيّارة، وبس يكبر بيفهم إنها سيّارة موتى".

محيي اليوم مريض، أصابته نزلة معويّة بسبب المياه الملوّثة، ويسعل كأنّ دبّابة تمشي على صدرِه، يعاني من التهابات خفيفة في الرئة بسبب الدخان غير الطبيعيّ من القصف المتواصل، هذا طفل يفكّر في الحياة كأنّها لعبة، يمسكها هكذا ويقلّبها بين يديه، يفكّ براغيها، ويشدّ بعضها، يسحب الحبل لعلّه يفهم تركيبتها، المهمّ ألّا يكون الموت جزءًا من حياته.

 

لعثمة وجثث

"بدّي قهوة وميّ، وبعد هيك رح أحكيلكم كلّ إشي"، هذه جملة قالها لنا أبو علي؛ أحد النازحين الجدد في المزرعة، ذو خمسة وخمسين عامًا، فقدَ ابنه الوحيد في هذه الحرب، رحل الطفل رفقة طليقة أبي علي بعد أن قصف الاحتلال منزلًا يأويهم منذ أربعين يومًا، إلى حين نزوحه منذ فترة وجيزة، عرف أنّ طفله وزوجته قد استشهدا، بعد أربعين يومًا عرف أنّ الاحتلال قتل ابنه الوحيد.

أبو علي رفض مغادرة مدينة غزّة وسط تحذيرات الاحتلال، واعدًا والده ألّا يكرّر خطأه، وحتّى لا يحمل على ظهره قصص هجرة ثالثة، ورابعة، فقرّر البقاء. حضر من العدوان ما لا نرغب في سماعه، وواجب علينا معرفته؛ لأنّ الذاكرة الجمعيّة مبنيّة على مشاهد مشتركة، وتراكمات لها علاقة بسرديّة الأرض والفلّاح.

كان هذا الرجل أحد سكّان مدينة غزّة، وبالتحديد منطقة «الشيخ رضوان»، يقول أبو علي: "بينما كنت أتجهّز للنوم بعد أن يغلبني النعاس، أصلّي ثلاث صلوات على مراحل، الصلاة الأولى هي صلاة العشاء، والثانية صلاة الجنازة على الشهداء الغائبين، والثالثة قيام ليل، أتمدّد على السرير في منزلي، وأضع هويّتي (بطاقة تعريفيّة) في جيب القميص، وأخرى ورقة كُتِب عليها اسمي رباعيًّا في جيب البنطال، احتياطًا إذا ما قُصِف المنزل وأنا فيه، وطرت أشلاء، يمكنهم إيجاد اسمي في قدمي أو في يدي". تنهّد أبو علي وأكمل: "في ليلة من الليالي اشتدّ الموت علينا، مسكت قلمًا، وصرت أكتب اسمي على يدي وقدمي وصدري، ظننتني نرجسيًّا، صار جسدي ورقة تواقيع".

في ذات الليلة قُصِف منزل أبي علي؛ سقط على رأسه الشبّاك، وأحزمة الخرسانة الثقيلة كوّنت فوق جسده مثلّثًا يحميه من سقوط السقف عليه، يقول: "لا أعرف كيف نجّاني الله من هذا الموت، الّذي أعرفه جيّدًا أنّه لا يمكنني البقاء في المنزل، واضطررت إلى التوجّه صوب «مستشفى الرنتيسيّ»، وهو مستشفى سرطان للأطفال، يأويهم ويقدّم لهم رعاية خاصّة. صار هذا المستشفى ملجأً للأطفال وذويهم؛ هربًا من سرطانين، المرض والاحتلال".

يقول أبو علي: "حالما سيطر الاحتلال على منطقة «حيّ الكرامة»، وبدأ يتقدّم صوبنا من جهة الأمن العامّ - دوّار يفصل «حيّ الكرامة» عن «حيّ النصر» - بدأت ’الكواد كابتر‘ - سلاح يُسْتَخْدَم بديلًا للجنود الراجلة - يطلق النيران صوب كلّ مارق طريق، ولا أعرف كيف غلبني النعاس تلك الليلة، لكنّ الّذي أعرفه أنّي بدلًا من أن أستيقظ على صوت فيروز، وجدت فوّهة الدبّابة على مدخل الشبّاك الّذي أنام تحته، عرفت حينذاك أنّ السرطان وصل مراحل متقدّمة في جسد هذه المدينة.

"بدأ الجنود بمناداتنا"، أكمل أبو علي، وطلبوا منّا حمل هويّاتنا باليد اليمنى، علم أبيض في اليد اليسرى، ونخرج من المستشفى فردًا فردًا، ثمّ طلبوا منّا المشي في خطّ سير مستقيم من «حيّ النصر» باتّجاه «شارع الجلاء»، وإكمال المسير نحو الحاجز العسكريّ المقام في «شارع صلاح الدين»؛ من أجل العبور نحو المناطق ’الآمنة‘!

أردف أبو علي: "رفضت الانصياع، والتففت من «شارع الجلاء»، متّجهًا نحو «الرمال» قاصدًا «مستشفى الشفاء»، وبينما أمشي، والله شاهدت بأمّ عيني جثثًا ملقاة على الأرض، رجالًا ونساء وأطفالًا، شبّانًا وشابّات، بعضٌ قُتِل قنصًا برصاصة فأكثر، وآخر قصفًا بصاروخ فأكثر، هنا يد ورأس، وهناك قدم وإصبع، هذا كتف لا أعرف مَنْ كان يتّكئ عليه، لكنّه اليوم مرميّ في شارع طويل، ولا عابر يحمله، تعرفون المقبرة؟ الشارع يشبهها، دون شواهد ولا رمال، فقط جثث، حيث الحانوتيّ".

 

لا القصّة قصّة، ولا البطل بطل

أعرف أنّنا اعتدنا قصصًا بنهايات سعيدة، أو بالحدّ الأدنى وجود بطل، المفارقة هنا انعدام الشيء، لا القصّة قصّة، ولا البطل بطل، ولا غزّة هي غزّة الّتي أعرفها، وحدّثت الآخرين عنها.

سألتني صديقتي حينما كنت في رام الله: "أحمد، أخبرني عن غزّة، ما لونها ورائحتها؟". أجبت: "غزّة عبارة عن ملجأ آمن لي وللغزّيّين، البحر بحرنا، والشوارع كلّها لنا، في غزّة عندما أمشي، أضع يديّ الاثنتين في جيبي؛ لأنّي أعرف الشوارع ولا أخاف التيه، ولا أنتظر هجومًا من غريب، أمشي مطمئنًّا كأنّي في غرفتي؛ بينما في الغربة كنت أتجوّل في شوارع مصر، وعمّان، وتركيا، والدوحة، ورام الله، ويداي الاثنتان معلّقتان في الهواء، لا أضع في جيبي سوى هاتفي، ويداي جاهزتان لأيّ هجوم من غريب أو تيه، لم أشعر بالأمان في حياتي إلّا في غزّة.

اليوم، وبعد مرور سنة على إجابتي، أقول: "يا غدير، لعلّك تقرئين: كلّ العالم آمن إلّا غزّة، أنا اليوم يداي معلّقتان في الهواء، صُلِبت كعيسى، وجيبي مقبرة، كلّما وضعتُ يدي فيها، عانقتُ شهيدًا، الغريب أتى، والهجوم سرطان أبيض، سئمت عدّ الأيّام، والمقبرة امتلأت.

 


 

أحمد بسيوني​​​

 

 

كاتب فلسطينيّ، درس ماجستير «العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة» في «معهد الدوحة للدراسات العليا». ينشر مقالاته في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة، شارك في إنتاج عدد من الأفلام الوثائقيّة مع «التلفزيون العربيّ».

 

 

 

التعليقات